نوفل ضو - السبت 28 آذار 2020 |
يعيش لبنان منذ انسحاب الجيش السوري في ربيع العام 2005، مرحلة الهجمة الإيرانية المضادة على استقلاله وسيادته بهدف السيطرة على الدولة اللبنانية ومؤسساتها الدستورية وقراراتها السيادية في المجالات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية وغيرها...
وتميزت الفترة بين العامين 2005 و 2008 بنجاح حزب الله في امتصاص اندفاعة الموجة الاستقلالية والسيادية في لبنان واحتوائها، مستفيداً من:
بعد حرب تموز / يوليو 2006 التي اضطر حزب الله بنتيجتها للقبول بالقرار 1701 لوقف الحرب، ارتد الحزب الى الداخل اللبناني بحجة "محاسبة" الحكومة والقوى السياسية والحزبية التي "تآمرت" عليه خلال الحرب من خلال تواطئها وانسجام مواقفها مع العرب والولايات المتحدة الأميركية والغرب. فكانت الاعتصامات وإقفال وسط بيروت، ومنع انتخاب رئيس جديد للجمهورية بعد انتهاء ولاية العماد إميل لحود، ومحاصرة السراي الحكومي ومحاولة تعطيل عمل حكومة الرئيس فؤاد السنيورة من خلال إفقادها النصاب باستقالة الوزراء الشيعة منها، وباغتيال ومحاولة اغتيال وزرائها، وإقفال مجلس النواب، وقلب موازين الأكثرية النيابية باغتيال نواب من "قوى 14 آذار"، ومحاولة منع تمرير قرار إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان لمحاكمة مرتكبي جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه والجرائم المتصلة بها، مما اضطر مجلس الأمن الدولي لإصدار القرار 1757 (31 أيار / مايو 2007) بإنشائها تحت الفصل السابع، وصولاً الى 7 ايار 2008 عندما احتل حزب الله بيروت وهاجم الجبل لفرض أمر واقع سياسي جديد وقلب موازين القوى والغاء المفاعيل السياسية والدستورية لانتخابات النيابية للعام 2005 بالقوة العسكرية!
جاء "اتفاق الدوحة" في أيار / مايو 2008 ليكرس سياسيا النتائج العسكرية ل 7 ايار. منذ ذلك التاريخ تم إسقاط الفرصة التي أتاحها انسحاب الجيش السوري من لبنان لإحياء الدستور (اتفاق الطائف) بنصه وروحه، ودخل لبنان مرحلة حكم "موازين القوى" العسكرية على حساب "قوة توازن" التي تنتجها الممارسة الديموقراطية الصحيحة والسليمة المتمثلة في فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وتوازنها.
صحيح أن "اتفاق الدوحة" لم يكن المرة الأولى التي يتم فيها إسقاط الدستور اللبناني منذ خروج لبنان من حربه في العام 1989 بعد اتفاق الطائف. فمع "التفسير السوري" لهذا الإتفاق وتطبيقه وفقا لهذا التفسير اعتبارا من 13 تشرين الأول (أكتوبر) 1990 تاريخ العملية العسكرية التي دخل في خلالها الجيش السوري الى القصر الجمهوري في بعبدا حيث كان يتحصن يومها العماد ميشال عون كرئيس للحكومة الإنتقالية رافضا الإعتراف باتفاق الطائف وبشرعية الرئيس الياس الهراوي، سقطت نصوص الإتفاق وروحه مع رفض النظام السوري اعادة نشر جيشه حتى البقاع خلال سنتين، ومع تولي رئيس جهاز الأمن والإستخبارات في الجيش السوري العامل في لبنان اللواء غازي كنعان، ومن بعده العميد رستم غزالة، "صلاحيات" تفسير الدستور والإدارة الفعلية للمؤسسات الدستورية وإرساء "التوازنات" في ما بينها. يومها باسم الحفاظ على الإستقرار غُيِّب الدستور واغتيلت الديموقراطية وتعطل الإنتاج الفعلي للسلطة التي تمثل اللبنانيين، واكتفى اللبنانيون بالعمل على الهامش الإقتصادي والإجتماعي الذي سمح فيه النظام السوري في محاولة للحفاظ على الحد الأدنى من مقومات "الأمن الإجتماعي" بعدما صادرت دمشق القرارات العسكرية والسياسية الإستراتيجية وحتى الإدارية للدولة اللبنانية، وعملت في هذا الإطار بالتعاون مع إيران على تقوية نفوذ حزب الله لاستخدامه كورقة مشتركة سورية – إيرانية في المعادلات الإقليمية والدولية.
لكن، وبعد سقوط النظام الأمني اللبناني – السوري في 14 آذار/ مارس 2005، بدأت إيران تدريجياً من خلال حزب الله بالعمل على ممارسة "سلطة" عنجر (مقر جهاز الأمن والإستخبارات السورية في لبنان) في تعطيل اتفاق الطائف والدستور اللبناني، من حارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت (مقر الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله). ويمكن التوقف في هذا الإطار عند المحطات الآتية:
ولأن ما نعيشه في لبنان منذ سنوات هو جزء مما تعيشه المنطقة من محاولات إيرانية للتمدد والسيطرة ونشر الفوضى وعدم الإستقرار واستهداف الأنظمة والدساتير، فلا بد من الإستفادة من تجارب الآخرين في المواجهة لنستخلص العبر ونسترشد بالمسارات الواجب اعتمادها لوضع حد لما نحن عليه، والإنتقال بلبنان الى حالة من الإستقرار السياسي والدستوري الحقيقي المبني على "قوة التوازن الديموقراطي" بعيدا عن "موازين القوى العسكرية" التي تسعى إيران من خلالها لفرض سيطرتها على أكثر من دولة عربية!
يشكل الاتفاق النووي الذي وقعته إيران مع المجتمع الدولي قبل أن يعلق الرئيس الأميركي دونالد ترامب تنفيذه، نموذجا للاتفاقات التي تسعى إيران من خلالها لكسب الوقت بهدف تطوير قدراتها العسكرية وتوسيع نفوذها في الدول العربية بقوة السلاح والميليشيات التي ترعاها. وقد كان ولي عهد المملكة العربية السعودية الأمير محمد بن سلمان موفّقاً في تشبيهه أبعاد المشروع الإيراني من خلال الاتفاق النووي، بأبعاد الأطماع النازية من معاهدة ميونيخ التي وقعتها فرنسا وبريطانيا وايطاليا مع المانيا النازية في العام 1938 على أمل تلافي المواجهة الناجمة عن طموحات هتلر التوسعية، والتي استفاد منها الزعيم النازي لكسب الوقت والإعداد للحرب العالمية الثانية التي اندلعت في العام 1939!
أما التسويات الداخلية المتلاحقة مع حزب الله، منذ التحالف الرباعي (2005) الى اتفاق الدوحة (2008) الى تسوية انتخاب العماد ميشال عون رئيسا للجمهورية (2016) فتشكل بمفاعيلها السياسية نموذجا مصغرا وموازياً لمفاعيل الاتفاق النووي الذي استغلته إيران من خلال حزب الله لبسط سيطرتها على لبنان أرضا ومؤسسات دستورية وقرارات استراتيجية كجزء من مشروعها التوسعي في الدول العربية.
إن مواجهة هذا الواقع تتطلب ارتفاع أصوات لبنانية تدعو للخروج من المفاعيل العملية السياسية والعسكرية لهذه التسويات الداخلية مع حزب الله، والعودة الى التطبيق الفعلي والكامل والحرفي ل"اتفاق الطائف" في شقه السيادي، وللدستور اللبناني في كامل بنوده، ولقرارات مجلس الأمن الدولي الخاصة بلبنان، كما سبق للرئيس الأميركي دونالد ترامب ان انسحب من الاتفاق النووي الايراني قبل أشهر وكما سبق له أن أعلن عن استعداده للتوصل الى اتفاق جدي مع إيران يحفظ أمن المنطقة واستقرارها الحقيقين بعيدا عن تهديدات الأسلحة النووية والصاروخية الإيرانية وعن دور أذرع إيران في زعزعة استقرار دول المنطقة لا سيما العربية منها وفي مقدمها لبنان.
لقد أثبت سياسة "التسويات" مع حزب الله بمفاعيلها الميدانية والسياسية اللبنانية أنها نموذج مصغر عن الاتفاق النووي الإيراني (2015) بالنسبة الى المنطقة العربية، ومعاهدة ميونيخ (1938) بالنسبة لأوروبا والعالم...
فهل من بين القادة اللبنانيين من يجرؤ على تبني هذه المقاربة، فيجاهر بضرورة رفض الاستسلام للأمر الواقع والعمل على بناء التحالفات والشراكات العربية والدولية المطلوبة التي تضمن تحرير لبنان من الارتهان للمشروع الإيراني وإعادته الى موقعه التاريخي والى هويته العربية وعلاقاته الدولية المعروفة؟
نوفل ضو
سياسي وصحافي لبناني
مركز الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الجيو سياسي للدراسات الاستراتيجية والأبحاث